في قريتنا العزلاء، ذات الدّور الإسمنتية المتناثرة، جوار
مبانٍ تقليدية مستطيلة الشكل، ترتكز إلى دعائم حديدية أسطوانية، محاطة في الجهات
الأربع برداء عريض للتدفئة، تغطّيها أسقف هرمية الشكل من صفائح حديدية صدئة من أثر
أشعة الشمس وقرْع الأمطار، لم تكن الأيام تمتاز عن بعضها البعض إلا في الأعياد
والمناسبات، وماعدا ذلك تمضي الحياة عادية ورتيبة.
وذاتَ أسبوع شِتوي عاصف، تصادف أن اجتمعت في القرية،
مناسبتان في اليوم نفسِه، وابتسم الحظّ للصّبيان والمتسكّعين. في الجهة الشرقية من
القرية كانت دار أهل اشريفْ تزدحم بالوافدين من داخل القرية ومن القرى
المجاورة، والقادمين من المدينة التي تبعد
عشرات الكيلومترات، وكان صُياح الكباش التي تجاوزت العشرة، يعلو في تتابع. وفي
الجهة الشمالية كان منزل أهل امحميدات يستقبل فُرادى من رجال ونسوة القرية،
وقد ربطت عند جذع شجرة إلى الجهة الخلفية
للمنزل نعجتان وخروف. وأقيمت الولائم عند الأسرتيْن، وعمّت أجواء الاحتفاء
بمولوديْهما في أرجاء القرية. يومَها رأيتُ طيّبَ الذّكر اسويدات خارجا بُعيد
العصر من عندِ دار أهل اشريف، يمسح يديه وفمه بطرف لثامه، ويهزّ رأسَه في عظةٍ
ظاهرية:
ـ سبحان الله!.. النّاس خلقهامولان و لا ساوَاهَا
لم يكن اسويدات يفوّت أي مناسبة تحينُ في ليل أو نهار،
ولم تفته في ذلك اليوم المشهود، فرصة حضور المناسبتيْن رغم تزامنهما، غير أنه أمضى
ضحوة اليوم وقيلولته عند أهل اشريف، بعد أن مر في طريقه وعلى عجل بمنزل أهل
امحيمدات.
وفي سائر الأيام لم تكن مجالس الشاي في القرية، تخلو من
حضور اسويدات إلا في ما ندَرْ. كان اسويدات معروفا بين أهل القرية بطرافتِه وحسّه
الساخر، حيث يطلق النكات متندّرا على الحاضر والغائب، ويسخر حتى من نفسه في بعض
الأحيان، ولم يكن يستثني من أهل القرية في سخريته وتهكّمه أحدًا سوى أهل اشريف،
الذين كان يقول إنه يخشى السخرية منهم حتى لا تصيبه صاعقة من السماء، أو تزلزلَ من
تحت قدميه الأرض!..وكان يسأل في دعائه أن يُرزق بركتهم، وبَرَكةَ آبائهم وأجدادهم!
مرّت الأيام والليالي، وتوالت السنين، ونشأت صداقة في
الصّبا بيني وبين الهادي ولد اشريف، ومحمد الامين ولد امحيمدات، الذي اشتهر منذ
الصغر باسم آلويمين، حيث كنّا ندرس صحبة أطفال آخرينَ من القرية في محظرة المسجد،
وأذكر أن جدّتي كانت دائما تُوصيني بمصاحبة الهادي واللّعب معَه، وتحذرني من آلويمينْ...كانت
جدتي تكرّر على مسمعي:
ـ لا تُصاحب إلا أبناء الكرام.."لا خير في الحدّاد
ولو كان عالمًا!".."العِرق دسّاس" يا ولدي!
وأذكر أنّا كنّا في فترة الطفولة نتندّرُ على آلويمين
ونلمزُ في أصله، وكنّا نرميه ساخرين بصفات الجُبن، والعَجلَة، والشّره، كما كان
بعضُ الصّبية يرميه بتُهمة احتراف السّرقة، ولم يكن آلويمين في الغالب يغضب من
ذلك، بل كان في بعض الأحيان، يُجارينا السخرية والضحكَ من تلعثمه وكثرة أغلاطه في
الكلام، وكان آلويمين إلى ذلكَ أمهرنا في ابتكار وتركيب الألعاب التي كنّا نلتقطُ
أجزاءها من نفايات القرية!
أما الهادي فكان من أسرعِنا حفظًا في المحظرة، وكان كثير
التحدّث بيننا، عن كرامات أجداده، وأحيانا عن كرامات شخصية يزعم أنها حدثت معه،
ولم يكن له من شاهد غير تصديقنا التلقائي وتأميننا على كلامه، وكثيرا ما كان شيخنا
في المحظرة، يمسح بيديه على رأس الهادي ويقبّله ويدعو له، ويقول إن سمات العلم
والنباهة والصّلاح واضحة في محيّاه الصغير!
قويتْ أواصر الصداقة بين الهادي وآلويمين مع الزمن، وكان
الأخير كثير التردّد على منزل أهل اشريف، من حينٍ إلى آخر، ورغم الاحترام الظاهر
بين العائلتيْن الجيران، لم تكن تخفى علامات النظر باستعلاء من طرف أهل الهادي
لشخص آلويمين، إلى أن حدثت واقعةٌ كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير، فذات مساء
كان آلويمين عند منزل أهل اشريف صحبة الهادي وبعض الشبّان الآخرين من القرية،
وبعيد مغادرة آلويمين المنزلَ بساعات، نشب حريقٌ مُفاجئ في إحدى غُرفِه، وانهالت
القصص والأقاويل، وصار أكثر أهل القرية يتحدّثون عن شؤمٍ يُرافق آلويمين أينما حلّ
أو ارتحل، وجعلَ النّاس في القرية يتطيرون منه، ويتحاشون مجالستَه أو الاجتماعَ
به، ورغم ذلك لم يكن الناس داخل القرية في غنى عن آلويمين لإتقانِه الأعمال
اليدوية، وخبرتِه في الحدادة، التي ورثها أبًا عن جدّ.
بعد مرور عدّة سنين، غادرتُ قريتنا الصغيرة، باتجاه
العاصمة نواكشوط، للتسجيل في الثانوية، وانقطعت عني أخبار القرية، سوى ما يجلبه بعض
الوافدين من الأهل إلى نواكشوط، حيث علمتُ أن آلويمينْ غادرَ القرية بعد وفاة
والديْه إلى العاصمة، حيث افتتحَ محلاّ للصناعة التقليدية، أمّا الهادي فقد ذاعَ
صيتُه بين النّاس، حيث صارَ وجيها، ذا نفوذ تقليدي واسع، ويحظى بمكانة خاصة في
أوساط مريديه.
وبعد حصولي على الباكلوريا، سافرتُ إلى فرنسا لاستكمال
الدراسة، والتخصص في مجال الطبّ، وانقطعت عنّي بشكل تام، أخبار القرية وأهلها،
وبينما كنتُ أحضرّ للعودة مؤقتا إلى أرض الوطن، تلقّيتُ اتصالا مُفاجئا من الهادي
ولد اشريف، يُخبرني فيه بأن والدتَه زينب، أصيبت بفشل كلوي حاد، وبنيتهم السفر إلى
فرنسا لإجراء عملية جراحية لها، حيث طلبَ منس مساعدتهم في استكمال إجراءات السفر
إلى باريس، والتحضير لإجراءات العلاج. وبعد قدوم عائلة أهل اشريف إلى فرنسا لعلاج
الوالدة، شرعنا في الإجراءات الطبّية، حيث أراد الهادي التبرّع لها بإحدى كليتيْه
لإنقاذ حياتِها، وبعد خضوع الهادي للفحوصات الأولية، استدعاني الطبيب المشرف على
الفحوصات بوصفي الناطق الوحيد بالفرنسية بين المعنيين بالأمر، وعند اللقاء بالطبيب
الفرنسي، أنبأني بنبإ وقعَ عليّ وقوع الصاعقة، وحاولْتُ في البداية تفاديه وعدمَ
تصديقِه، حتى أطلعني الطبيب على الكشوفات الطبّية التي أثبتتْ يقينًا أنّ الهادي
لا تربطه أية صلةِ قُرْبَى ب"أمّه" زينب!
وتردّدتُ في إخبار الهادي وعائلته بالأمر، متعلّلا لهم
بادئ الأمر بتأخر ظهور نتائج الفحوصات، غير أنّ تدهور الوضع الصحي لزينب، وحاجتَها
الملحّة إلى متبرّع بكلية في أسرع وقت، لم يدع أمامي متّسعًا للصّمت والتردّد،
ممّا اضطرّني لإخبار أفراد العائلة مجتمعينَ بالحقيقة، حيث كانت صدمتُهم عند سماع
الخبر بالغة وعنيفة، وبعد تراجع آثار الصّدمة وتقبّل الأمر الواقع، شرعنا في
التحرّي بفهم ما جرى، ليُخبرنا والد العائلة، أنه في ليلة ميلاد الهادي، لم يدخل
نقطة التوليد، نزيلٌ عدا عائلتيْ اشريف، وامحيمدات؛ حيث تزامن ميلاد كلّ من الهادي
وآلويمينْ في نفس الليلة بفارق ساعات قليلة، وكانت العائلتان في نفس الغرفة، وشهدت
الليلة هبوب رياح عاصفة، وهطول أمطار غزيرة، ممّا تسبّبَ في انقطاع التيار
الكهربائي عن النقطة الصحية عدّة مرّات، ممّا يرجّح حدوث تبادل لمولوديْ
العائلتيْن عن طريق الخطأ، وكان لا بدّ من إجراء فحوصات طبية لآلويمينْ للتحقّق من
هذه الفرضية!
وبعد إجرائي اتصالات هاتفية ببعض المعارف في نواكشوط،
فوجئتُ بأحدهم يُخبرني أن آلويمين موجودٌ في العاصمة الفرنسية باريس، في إطار
تنظيم معرض للصناعات التقليدية الموريتانية، ولم أستغرق كثير وقتٍ للحصول على
عنوانه، حيث اتصلتُ به، وأخبرتُه القصّة، وشرحتُ له الظرف الصحيّ الحرج لزينب،
وبعد إفاقته من صدمة الواقعة، وغثر الكثير من التردّد والجدال، قبلَ آلويمين إجراء
الفحوصات اللاّزمة لقطع الشكّ باليقين، حيث أثبتت الفحوصات بشكل قاطع أن آلويمين
هو الابن الحقيقي لشريف وزينب!
وعقب قبول آلويمين التبرّع بإحدى كليتيه لوالدتِه، وبعد
استكمال عملية زرع الكلية بنجاح، غادر الجميعُ إلى أرض الوطن...آلويمين بجُرحٍ في
جهته اليُسرى، وبكلية واحدة، والباقون بجراحٍ أُخرى أعمقَ غورًا، غيّرت نظرتهم
للنّاس والأشياء. ليستأنفَ كلٌّ دورَه الذي رسمتْه له الأقدار في تراجيديا
الحياة!.