سأحدثكم اليوم عن صديقي حسن، كان حسن أحد أكثر الناس الذين عرفتهم ذكاء ونباهة، إذا كان يمكن قياس الذكاء في تلك السن المبكرة. درست أنا وحسن في نفس المحظرة القرآنية وكان أول من يحفظ لوحه رغم كثرة المهام التي كانت زوجة المرابط تكلفه بها من غسل للأطباق وحلب للأغنام إلي غير ذلك من المهام المنزلية.
عند بلوغنا سن السابعة ذهبنا إلي نفس المدرسة الابتدائية وحسن كان دوما الأول في الصف. وفي السنة الثانية كان يحفظ جميع جداول الضرب حتى الرقم 17 رغم سنه المبكرة.
لقد كنت معجبا جدا بصديقي حسن، معجبا بذكائه الخارق حتي صرت ملازما له كظله. وبسبب هذه الصداقة تعرضت للكثير من المضايقات لأنه ليس من العادات والتقاليد أن يصادق ابن زوايا مثلي حرطانيا مثل حسن، ولكن هذه المضايقات كانت محدودة لأن حسن كان يوقف أيا كان عند حده بعضلاته الصغيرة التي اكتسبها في سن مبكرة من الأعمال الشاقة التي كان يجبر علي ممارستها هنا وهناك.
عندما وصلنا للسنة الثالثة كثر تغيب حسن عن المدرسة وعند سؤالي له عن سبب تغيبه المستمر تعلل بمعاونته لوالده على إعالة اخوته الثمانية حيث ينوب عنه أحيانا في سياقة عربة "شاريت". وفي أحد الأيام اختفي حسن نهائيا من المدرسة حتي المعلم لم يعد ينادي باسمه بداية الدرس.
بعد ذلك القيت حسن في صباح أحد الايام وأنا ذاهب للمدرسة علي حماره في بداية يوم عمله، وأحسست ببعض الغيرة منه –لأنه ليس ملزما بالذهاب للمدرسة – فأنا لم أحب يوما المدرسة ولا مقاعدها، لذلك لم أتردد كثيرا عندما عرض علي مرافقته لمشاركته أحد أيام العمل. أدخلت دفاتري تحت قميصي حتى لا تسقط وصعدت علي ظهر العربة.
كان يوما من أجمل أيام طفولتي، فقد ضحكنا كثيرا ونقلنا نساء سمينات من السوق وحملنا القمامة من أمام المنازل والبضائع من وإلي المتاجر...
حسن كان يعرف المدينة جيدا بعكسي أنا الذي يعرف فقط الطريق من البيت إلي المدرسة، وحكى لي قصصا دغدغت خيالي الطفولي سنين عديدة عن قمامة النصاري المليئة بالألعاب وعن قمامة مسجد المغرب المليئة بالفواكه، وتعهد لي أن يصحبني يوما إلي تلك المناطق التي في بعضها ترمي حتى النقود.
بعد سنوات اكتشفت أن النصاري لا يرمون ألعابا ولا نقودا وأن الفواكه وراء مسجد المغرب متعفنة ولكن كل هذا لم يمنع أن يومنا كان يوما جميلا مليئا بأحلام الصغار، وعند صلاة العصر أوصلني حسن إلي منزل أهلي حيث كان الضرب بانتظاري ومنعت بعدها من ملاقاة حسن والحديث معه.
مصير حسن لم يكن أحسن من مصيري بل كان والده أشد قسوة وأكثرا "كرما" في العقاب (لأن والدي أشتكي لوالد حسن من أنه سيفسد دراستي).
بعد ذلك اليوم لم ألتق حسن إلا خلال أوقات نادرة قبل أن يختفي نهائيا من حياتي حين انتقلت أسرتي من الحي الذي كنا نسكن فيه.
الشهر الفائت التقيت حسن، في البداية لم أتعرف عليه وكان هو من تعرف علي. كنت في سوق العاصمة أحتاج من يحمل الأغراض التي أشتريتها من أحد تجار الجملة، ومع أن التاجر نادي باسم حسن إلا أن ذلك لم يثر انتباهي لأن حسن اسم شائع عندنا، ولن ملامحه تغيرت كثيرا.
الناظر إلينا معا يظنه يكبرني علي الأقل بعشرين سنة، لقد تعرف إلي من الوهلة الأولي فأنا لم أتغير كثيرا حسب قوله أما هو فظهره محني من كثرة حمل المواد الثقيلة ويداه متشققتان من عائدات الزمن، كامل جسمه هدته السنون، فقط ضحكته لم تتغير وإن كانت أصبحت مشوبة ببعض الحزن والقبول بالأمر الواقع.
عندما حاولت أن أساعده في حمل أشيائي ضحك بشدة وقال أنت لم تخلق لحمل البضائع.
كنت سعيدا بلقاء صديقي وقفنا جنب سيارتي وتحدثنا عن ذكرياتنا المشتركة وكيف ساعدني مرة في امتحان الحساب وكيف كان يشرح لي ما لم أفهم من الدروس.
عند وداعنا حاولت أن أعطيه بعض الاوراق النقدية لكنه رفض بشدة رغم فقره الشديد متعللا بأن التاجر الذي يعمل لديه يدفع له أجرته. كنت أحاول أن أشتري قدرا من راحة ضميري لكن لم أفلح حتى في ذلك.
جلست في سيارتي وشعرت بالخجل حتي الموت، شعرت بالخجل من مجتمع لا يعطي أولاده نفس الفرص في الحياة، شعرت بالأسى لأنني أعرف أنه لو توفرت لحسن نفس الفرص والرعاية التي توفرت لي لكان عالما يشار إليه بالبنان أو رياضيا لا يشق له غبار، وليس حمالا في السوق يحمل أشياء الآخرين.
أنا وحسن ولدنا في وسط فقير في نفس المستشفي في السبخة وترعرعنا في نفس الحي في الميناء ونملك نفس الجنسية الموريتانية، ولكننا لم نكن يوما متساويين.
جملته الأخيرة أوضحت كل شيء : "أنت لم تولد لتحمل شيئا ثقيلا" أما هو فولد لذلك. واصلت الجلوس ساعة كاملة في سيارتي والحزن والألم يعتصراني. علينا أن نشعر جميعا بالخجل، مجتمعنا يفقد سنويا الكثير من أبنائه الأذكياء لأنه لا يوفر لأبنائه فرصا متساوية في التعليم.
يجب علينا أن نشعر بالخزي لأننا في القرن الواحد والعشرين وما زلنا نعيش في مجتمع طبقي لا يتساوي أفراده.
يجب علينا أن نشعر بالخجل عندما نرى طفلا صغيرا يسوق حمارا أو متعلقا بمؤخرة "أتوبيس" أو يبحث في القمامة عن ما يسد به رمقه أو محتجزا في منزل يخدم مجموعة من الكسالي لا يتحرك أحدهم حتي لأخذ كوب من الماء .
يجب أن نخجل لأننا لا نحاول تغيير كل هذا وأنا أشعر بالخجل والعار لكل هذا جميعا وأشعر بالعار لانتمائي لمجتمع هذه تصرفاته.
لقد حان الوقت لتغيير مسار التاريخ، لقد حان الوقت لتعويض"الحراطين ولمعلمين..." وكل المتضررين من نظامنا الاقطاعي الطبقي البغيض.
يمكنكم أن تسموا هذا التعويض ما شئتم عنصرية إيجابية، تعويض عن ظلم مئات السنين ... وحتي ذلك الوقت أتمنى من صديقي حسن وكل حسن آخر أن يسامحوني
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire